قال الله تعالى
" كل نفس ذائقه الموت"

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" مالى وللدنيا , ما انا فى الدنيا الا كعابر سبيل استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"

وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

 إن الله كتب الفناء على كل شيء فكل شيء هالك إلا وجهه ، وحكم بالموت حتى على أحب الخلق إليه محمدا وأنبيائه ورسله فقال عز وجل ( كل نفس ذائقة الموت ) وقال جل وعلا لحبيبه محمد صلى لله عليه وسلم مخاطبا له ولامته ( أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) فبالجملة ( كل نفس ذائقة الموت ) وكل نفس لا بد أن تشرب المنون صغيرة أم كبيرة ، ملكة أم فقيرة ، وزيرة أم حقيرة .لقد اصطفى الله نبيه ، هذا النبي العربي الأمين المأمون صاحب الجاه العريض ، والعرض المصون ، ومع هذا القرب وهذه المنزلة - التي لا يبلغها الواصلون - نعى الله إلى نبيه نفس نبيه الكريمة وأنذره ريب المنون ، وسلاّه بمن مات من قبله من المرسلين فقال (إنك ميت وإنهم ميتون )

لقد أنزل الله عز وجل قوله ( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا * ) فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد نُعيتْ إليّ نفسي ". وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال :" سبحان الله وبحمده" ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر من قول " سبحان الله وبحمده و أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت : يا رسول الله أراك تكثر من قول (سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أخبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي فإذا رأيتُها أُكثر من قولي سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتُها ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ).

ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت هذه السورة ما يدل على قرب رحيله ، نزل عليه قول الله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها (80 يوما ) ، وقيل عاش أقل من ذلك .

وما زال الحبيب صلى الله عليه وسلم يعرّض لأمته باقتراب أجله ودنو فراقه لهذه الدنيا ، فقد خطب الناس في حجة الوداع قائلا :

" يا أيها الناس خذوا عني مناسككم ، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا " ، وطفق يودع الناس ، فقالوا هذه حجة الوداع ، فلما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس فخطبهم وقال "أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيب " ، ثم حض على التمسك بكتاب الله ، وأوصى بأهل بيته خيرا ، قال ابن رجب : ( وكان ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم في أواخر صفر ) ، وذكر ابن هشام وغيره في السيرة عن أبي مُويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو مُويهبة ( بعثي رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي أيقظني من جوف الليل - فقال :" إني أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع ، فانطلق معي " ،فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال :"السلام عليكم أهل المقابر ، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم - كقطع الليل المظلم - يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى " قال : ثم أقبل عليّ فقال: " يا أبا مُويهبة إني قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فخُيرت يبن ذلك ، وبين لقاء ربي والجنة "، فقال أبو مُويهبة : بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ، فقال : " لا والله يا أبا مُويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة " ، ثم استغفرَ لأهل البقيع ثم انصرف . فبُدء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بدأه وجعه الذي قبضه الله فيه ، وقالت عائشة رضي الله عنها: رجع رسول الله صلى الله علبه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " بل أنا والله يا عائشة وارأساه " ، قالت : ثم قال : " وما ضرك يا عائشة لو متِ قبلي فقمتُ عليكِ وكفّنتكِ وصليتُ عليكِ ودفنتكِ " ، قالت عائشة : والله لكأني بكَ لو قد فعلتَ ذلك ، لقد رجعتَ إلى بيتي فأعرستَ فيه ببعض نسائكَ ، قال : فتبسم صلى الله عليه وسلم .) وروى الدارمي : أنه خرج صلى الله عليه وسلم وهو معصوب الرأس بخرقة حتى أهوى على المنبر فاستوى عليه فقال : " والذي نفسي بيده إني لأنظر الحوض من مقامي هذا " ، ثم قال : " إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند ربه " ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، وقال : فعجبنا ، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عنده ، وهذا الشيخ يعنون أبا بكر - يقول : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخيّر ، وكان أبو بكر أعلمنا به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنتُ متخذاً من الأرض خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ، لا يبقى في المسجد خَوخَة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر " -رواه الشيخان -قالت عائشة رضي الله عنها : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد وجعه استأذن أزواجه رضوان الله عليهن أن يُمَرّضَ في بيت عائشة فأُذن له ، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض - خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت ميمونة إلى يبت عائشة وهو محمول يحمله العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب قد أثقله الوجع ورجلاه صلى الله عليه وسلم تخطان في الأرض - . وفي رواية : أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه : " إني لا أستطيع أن أدور في بيوتكن فإن شئتن أذنتن لي في البقاء عند عائشة " . وفي رواية : أنهن قلن : يا رسول الله قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة . وقيل أن فاطمة رضي الله عنها خاطبت أمهات المؤمنين بذلك ، فدخل بيت عائشة يوم الاثنين ، وكان أول مرضه صلى الله عليه وسلم الصداع ، ثم نزلت به الحمى واشتد ، حتى روي عنها رضي الله عنها أنها قالت : ما رأيتُ أحداً كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت عليه قطيفة ، فكانت حرارة الحمى تصيب من يضع يده من فوق القطيفة فقيل له في ذلك - فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم عن شدة حرارة ما نزل به من الحمى - فقال صلى الله عليه وسلم : " إنا كذلك معاشر الأنبياء يُشدد علينا البلاء ويُضاعف لنا الأجر " . وعن عبد الله قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت : يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً ، قال : " أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم " ، قلت : ذلك أن لك أجرين ؟ قال: " أجل ،كذلك ما من مسلم أوذي بشوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها . ) ولهذا من شدة ما نزل به من الوجع ، وما نزل به من الحمى وحرارتها يقول : " أهريقوا علي من سبع قرب لم تُحلّ أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس " ، قالت عائشة : فأجلسناه في مخضب ثم طفقنا نصّب عليه من تلك القرب حتى طفق - بأبي هو وأمي - يشير إلينا بيده "أن قد فعلتُن " . وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " لا أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، لا أزال أجد ألم الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أظهري من السم ". وذلك أن يهودية دعت نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكانت تعلم أحب مواضع اللحم إليه فسمّت ذلك الموضع حقداً وبغضاً وكراهيةً على نبينا صلى الله عليه وسلم . عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا جاء نصر الله والفتح )- إلى آخرها - قال صلى الله عليه وسلم : " نُعِيتْ إلي نفسي " ، فأقبل إلى منزل عائشة والحمى عليه . قال بلال رضي الله عنه فلما أصبحتُ أتيت إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فناديت : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة .. الصلاة . - جاء بلال يؤذِن النبي بالصلاة ليقم بلال الصلاة ليؤم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة : " مُري بلالاً يقرئ أبا بكر السلام ويقول له يصلي بالناس " ، قال بلال : فرجعت باكيا وأنادي : وا سيداه ..وا نبياه وا سوء منقلباه ليت بلال لم تلده أمه . ثم أتيت المسجد فوجدت أبا بكر محتبسا بالناس ، فبلّغت أبا بكر السلام والرسالة قال بلال : فأقمت الصلاة فلما بلغت ( أشهد أن محمدا رسول الله ) غلبني البكاء ، فبكيت وبكى الناس فتقدم أبا بكر رضي الله عنه فأم الناس ، واستفتح الفاتحة ثم قرأ ، فلما نظر إلى موضع أقدام النبي صلى الله عليه وسلم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس من خلفه ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ضجة الناس بالبكاء قال لفاطمة : " ما هذه الضجة التي في المسجد ؟ " ، قالت فاطمة : إن المسلمين فقدوك وقت الصلاة . ثم وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفةً في بدنه ، فتوضأ وخرج متوكئاً على الفضل بن عباس وأسامة بن زيد علي بن أبي طالب فلما رأى المسلمون نبيهم .. لما رأى المسلمون حبيبهم .. لما رأى المسلمون نوراً تدفق إلى المسجد في إقبال النبي صلى الله عليه وسلم وأحسوا بمجيئه جعلوا ينفرجون حتى وصل النبي ، فوقف بإزاء أبي بكر وصلى بالناس ، فلما فرغ رقى المنبر يخطب في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم أقبل للناس بوجهه الكريم كالمودع لهم فقال : " ألم أبلغكم الرسالة ، وأؤدي الأمانة والنصيحة ؟ " ، قالوا : بلى يا رسول الله قد بلّغت الرسالة ، وأديت الأمانة ونصحت الأمة وعبدت الله حتى أتاك اليقين ، فجزاك الله أفضل ماجزى نبي عن أمته . ثم نزل فودع أصحابه ، وعاد إلى عائشة .

وذكر القسطلاني ( في المواهب اللدنية ) قال : نعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قبل موته بشهر فلما دنا الفراق يقول الراوي : دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم - والراوي هو عبد الله بن مسعود - في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا ودمعت عيناه ، فقال : " مرحبا بكم ، حيّاكم الله ، آواكم الله ونصركم الله ، أوصيكم بتقوى الله وأستخلفكم الله عليكم وأحذركم الله إني لكم منه نذير مبين ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) . وكان عنده صلى الله عليه وسلم سبع دنانير فأمر عائشة رضي الله عنها أن تتصدق بها ، ثم قال بعد أن وضعها في كفه وهو ينظر إلى سبعة دنانير يقول : " وما ظن محمد بربه لو لقي الله محمداً ربه وهذه عنده " . ثم تصدق بها كلها .

وعن فاطمة رضي الله عنها قالت - لما صار يتغشاه الكرب -: وا كرب أبتاه . قال صلى الله عليه وسلم : "ليس على أبيك كرب بعد اليوم " .

وجاء عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ، اللهم أعني على سكرات الموت ، اللهم أعني على كُرَب الموت " ، ولم يزل صلى الله عليه وسلم في مرضه هذا ، ثم هبط جبريل عليه السلام وجلس عند رأسه وقال إن الله يقرئك السلام ويقول : ( كيف تجد نفسك - وربك أعلم بالذي تجد منك - فقال صلى الله عليه وسلم : " أجدني يا جبريل مغموما ..أجدني يا جبريل مكروبا ثم أتاه جبريل عليه السلام في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك ، فقال :" يا جبريل إن ملك الموت قد استأذن وأخبرني بالخبر، فقال : ( يا محمد إن ربك مشتاق ، وأنت تعلم ما أراد منك ربك ) ". ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما قُبضت روحه ... وصعدت روحه الشريفة إلى الملأ الأعلى ، والرفيق الأعلى إلى ربنا عز وجل ... لما صعدت روحه الشريفة دخل عليه الناس وكان قبل موته صلى الله عليه وسلم قد استأذنت فاطمة فأذن لها ، وقال : " ادني مني يا فاطمة " فانكبت عليه تبكي بكاءً طويلا وعيناها تذرفان وما تطيق الكلام ، ثم أدنت رأسها فانكبت على والدها صلى الله عليه وسلم فأكبت تقبله ثم عاد صلى الله عليه وسلم يناديها ، فرفعت رأسها وهي تبتسم ، قال الذين شهدوا : فرأينا عجبا ، أكبت فاطمة على أبيها تبكي ثم رفعت رأسها تبتسم . فكان آنذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بدنو أجله وفراقه الدنيا فبكت ، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعلها أول أهله لحوقا به وأن يجعلها معه في منزلته ودرجته صلى الله عليه وسلم فتبسمت ، فقال جبريل حينئذ : عليك السلام يا رسول الله هذا آخر ما أنزل به إلى الأرض فقد طوي الوحي ، وما كان لي حاجة بال دنيا إلا حضورك إنما كنت صاحبي في الدنيا .

وعن عائشة رضي الله عنها أنه قالت : أُغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري ، فجعلتُ أمسح وأدعو له بالشفاء فلما أفاق قال : " أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل والملائكة " .

وذكر الواقدي أن بعض الصحابة قالوا : يا نبي الله من الذي يلي غُسلك ؟ - من يغسلك؟ - قال : " رجل من أهل بيتي " ، قالوا : ففيما نكفنك ؟ قال : " ففي ثيابي هذه " ، قالوا : كيف الصلاة عليك منا ؟ وبكينا قال : " غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا ، إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة ، فإن أول من يصلي علي جبريل عليه السلام ، ثم ميكائيل ، ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة بأجمعِهم ، ثم ادخلوا عليّ فوجا فصلوا علي وسلموا تسليما ويبدأ بالصلاة عليّ رجال من أهل بيتي ، ثم نسائهم ثم أنتم " ، ثم اشتد به الأمر صلى الله عليه وسلم ، حتى أن وجهه الشريف ليرشح بالعرق . قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيتُ رشحا من أحد قط مثلما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم ، وما وجدتُ لذلك رائحة أطيب منه ، فكنت أقول : بأبي أنت وأمي ما تلقاه من الرشح ؟ فقال :" يا عائشة إن

نفس المؤمن تخرج في الرشح وإن نفس الكافر تخرج كالحمار " ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة من ماء فجعل يدخل يديه ويقول : " لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ، لا إله إلا الله إن للموت لسكرات " ، ثم لفظ صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول :" اللهم الرفيق الأعلى " حتى قضى نحبه .

وكان آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " - من عنايته بالتوحيد صلى الله عليه وسلم - وكان وهو يعالج سكرات الموت يحرض ويؤكد على التوحيد ، ثم قال : " اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد " ، وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة .. الصلاة الصلاة ، وما ملكت أيمانكم " . -هذه الصلاة يا عباد الله التي ضيعها كثير من المسلمين فلا يشهدونها ، ويؤخرونها عن وقتها هي من أواخر ما قال صلى الله عليه وسلم -.

وروى ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال : لما ثقل النبي صلى الله علبه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة : وا كرب أبتاه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ليس على أبيك كرب بعد اليوم " ، فلما مات صلى الله عليه وسلم قالت : يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ...، فلما دفن قالت : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على نبيكم - صلى الله عليه وسلم -.

وقد تولى غسله صلى الله عليه وسلم أهل بيته ومنهم عمه العباس وعلي والفضل وأسامه بن زيد وصالح مولاه رضي الله عنهم وتولى على رضي الله عنه غسل وجهه بنفسه وأسنده إلى صدره وعليه قميصه وهو يقول : بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيّا وما أطيبك ميتا . وأنزله عمه العباس في قبره وعلي وقثم بن العباس .

وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، فلما مات صلى الله عليه وسلم أظلم ذلك اليوم في المدينة ، وعلت الأصوات ، وبكى الناس ، واضطرب المسلمون اضطرابا شديدا فكان منهم من دُهش ومنهم من خلّطَ في كلامه وخَلَط ، أما عمر رضي الله عنه فإنه قال : إن رسول لم يمت وإنما وعده ربه كما وعد موسى عليه السلام ، وهو آتيكم . وقيل قال عمر رضي الله عنه : أيها الناس كفوا ألسنتكم عن رسول الله - من هول الفاجعة .. من شدة المصيبة ،لم يصدق أن نبيه مات - فإنه لم يمت ، والله لا أسمع أحدا يذكر أن رسول الله قد مات إلا علّمته بسيفي . ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام ، وسكت عثمان بن عفان فلم يطق الكلام أبدا ، وجعل يأخذ بيده فيجيء ويذهب ، ومنهم من أقعده فلم يطق القيام كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا أبا بكر فقد ثبّته الله فأقبل مسرعا رضي الله عنه وكان في بني الحارث بن الخزرج فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ميّتٌ مسجى فكشف عن وجهه الشريف واكبّ عليه وجعل يقبّل وجهه مرارا ويقول وهو يبكي : إنا لله و إنا إليه راجعون مات والله رسول الله ، مات والله رسول الله ثم قال : بأبي أنت وأمي ما كان الله ليذيقك الموت مرتين أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها . ثم دخل المسجد وعمر يتكلم والناس مجتمعون على عمر فتكلم أبو بكر وشهد أن لا إله إلا الله ثم حمد الله وأقبل الناس إلى أبي بكر وتركوا عمر رضي الله عنه ، قال أبو بكر من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد رب محمد فإن الله حيّ لا يموت ثم تلا قول الله ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ..) فاستيقن الناس كلهم بموته وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية إلا ذلك اليوم فتلقاه الناس منه فما سُمع أحد إلا يتلوها .

دفيا عباد الله من عظمت عليه مصيبته فليتذكر مصيبة المسلمين في موت نبيهم وفراق إمامهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، إن الجمادات تصدعت من ألم فراق الحبيب فكيف بقلوب المؤمنين ، أليس الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم قبل أن يُعَدَّلَه المنبر لما ترك النبي الخطابة عليه وانتقل إلى المنبر لما فقد الجذع قدم النبي صلى الله عليه وسلم صاح صياحا وحنّ حنينا - وهو جماد - حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم من منبره واعتنق الجذع فجعل يهدأ كالصبي الذي يُسكّن عنه بكاؤه وقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لحن إلى يوم القيامة "، فكيف بأعين لا تدمع وقلوب لا تتألم حينما تذكر فراق النبي صلى الله عليه وسلم .

إن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في حياته وفي ميتته صلى الله عليه وسلم فعلاً وقولاً وفي جميع أحواله ، ففي ذلك عبرةٌ للمعتبرين ، وتبصرةٌ للمتبصرين إذ لم يكن أحداً أكرم على الله من نبيه ، إذ كان خليل الله وحبيبه ونجيه وصفيه ورسوله ونبيه ، فانظروا يا عباد الله هل أمهل الموت نبينا خير خلق الله عند انقضاء مدته ؟ وهل أخر الموت نبينا ساعة بعد حضور منيّته ؟ بل أرسل إليه الملائكة الكرام الموكلين بقبض أرواح الأنام ،فجدّوا بروحه الزكية الكريمة لينقلوها إلى رحمة ورضوان وخيرات حسان ، بل إلى مقعد صدق بجوار الرحمن ، فاشتد مع ذلك في النزع كربه صلى الله عليه وسلم ، وتغير لونه ، وعرق جبينه حتى بكى لمصرعه الزكي من حضره ، وانتحب لشدة حال ما أصابه من السكرات من شاهد منظره ، وقد امتثل الملك ما كان به مأموراً ، فهذا حاله صلى الله عليه وسلم أصابه الموت ونزل به ، ونزلت به سكرات الموت ونزلت به الحمّى واشتدت وهو يجعل يده في الماء ويمسح على وجهه ، ويقول : " إن للموت لسكرات " ، هذا مع أنه عند الله صاحب المقام المحمود ، والحوض المورود ، وهو أول من تنشق عنه الأرض ، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الزحام ..

فالعجب أنا لا نعتبر بما حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم ، ولسنا على ثقة أن ننجو \.. هيهات هيهات ، ستخرج الأرواح وتذهب الأفراح ، ونلقى كُربات الموت والوفاة ، ولا يستطيع أحد أن يسترجع ما فات والكل على النار واردون ، ثم لا ينجو من النار إلا المتقون ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فبها جثيا * ) إننا سنلقى كرب الوفاة يا عباد الله ونحن سنلفى ما نحن مقدمون عليه ، فلنتفكر في الراحلين ، ولنعتبر بالسابقين ولنتأهب فإننا في أثر الماضين ..

أين الأخلاء والأخوان وأين الأصدقاء والأقرباء ، وأين الآباء والأمهات وأين الأجداد والجدات رحلوا عنا إلى أعجب الأوطان ، وبنوا في القلوب بيوت الأحزان ، فمن الذي طلبه الموت فأعجزه ؟ من الذي تحصّن في قبره فما أبرزه ؟ من الذي سعى في منيّته فما أعوزه ؟ من الذي أمّل طول الأجل فما حجزه ؟ أي عيش صفا وما كدّره الموت ؟ أي قدم سعت وما عثّرها الموت ؟ أي غصن علا على ساقه وما كسره الموت ؟ أما أخذ الآباء والأبناء والأجداد والأحباب ؟ أما ملأ القبور والألحاد ؟ أما حال بين المريد والمراد ؟ أما سلب الحبيب وقطع الوداد ؟ أما أرمل النسوان وأيتم الأولاد ؟ أما تتبّع قوم تُبع وعاد ؟ وعادَ على عاد ؟ ما هذا الانزعاج عند موت الأحباب ؟ وهل للبقاء سبيل للناس ؟ وهل يصح البناء مع تضعضع الأساس ؟ يا حزيناً لفراق أترابه ، كئيبا لرحيل أحبابه ، تبكي ذهابهم غافلاً عن ذهاب نفسك .

كان الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في درسه ، وطلابه من حوله ، فنُعي إليه وبلغه موت أبي عبد الرحمن محمد بن عبد الله الدارمي - صاحب السنن - فأطرق البخاري باكياً وتحد دمعه على خديه ثم قال :

إن تبق تُفجع بـالأحبة كلهم وفراق نفسك لا أبتا لك تفجعُ

عزاءٌ فما يصنـع جـــازع ودمع الأسى أبـد ضائـــعُ

بكى الناس من قبــل أحبابهم فهل منهم اليوم أحــدٌ راجعُ

عرفنا المصاب قبل الوقــوع فمـا زادنـا الـحادث الواقع

تدلى ابن عشريــن في قـبره وتسعــون صاحبــها رافعُ

وللمـرء لو كان يُنجي الفرار في الأرض مضطـرب واسـعُ

ومَنْ حتفـــهُ بين أضلاعه أينفعــه أنـــــه دارعُ

يُسلِّم مهجتــه ســـامحا كمــا مــدّ راحتـه البائعُ

ولو أن مــن حـدث سالما لما خسـف القـمــر الطالع

وكيف يـوقّى الفتى ما يخاف إذا كــان حاصــده الزارع

هذا هو المصير يا معاشر الغافلين ، واللحود هي المنازل بعد الترف واللين والأعمال الأقران ، فاعملوا ما يزين ، والقيامة موعدنا فتنصب الموازين ، والأهوال العظام ، فأين المفكر الحزين ، إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين .

اللهم اجعلنا ممن أفاق لنفسه ، وفاق بالتحفّظ أبناء جنسه ، وأعد عدّةً تصلُحُ لرمسه ، واستدرك في يومه ما ضاع في أمسه ، واجعلنا اللهم بطاعتك عاملين ، وعلى ما يرضيك مقبلين ، وآمنّا من الفزع الأكبر يوم الدين ، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، واجعلنا من أهل شفاعة حبيبنا سيد المرسلين ، واغفر اللهم لنا ولآبائنا وأقاربنا وارحمنا وأبنائنا وكافة المسلمين ، واجعلهم لنا من الشافعين يا رب العالمين .

اطبع هذه الصفحة

الرجوع للخلف
عدد المتواجدون الان

Powered by yallayaarab.biz ® Version 2.0 Gold
جميع الحقوق محفوظة لكل مسلم
برمجة وتصميم فادي الجعبه